بِقَلمِ: فُؤَاد زَادِيكِي
عِندَمَا أَخْتَلِي بِنَفْسِي، فِي سَاعَاتِ المَسَاءِ الهَادِئَةِ، وَ أَنَا أَسْتَلْقِي فَوْقَ أَرِيكَتِي طَلَبًا لِبَعْضِ الرَّاحَةِ، تَتَسَلَّلُ - عَلَى الفَوْرِ - إِلَى فِكْرِي تِلْكَ الهَوَاجِسُ، الَّتِي تَخْتَبِئُ خَلْفَ سَتَائِرِ النَّهَارِ، لِتُدَاهِمَنِي وَ تُعَكِّرَ عَلَيَّ صَفْوَ رَاحَتِي. لَا يَكَادُ الهُدُوءُ يُسْيْطِرُ عَلَى أَعْصَابِي إِلَّا وَ قَدْ بَدَأَتْ أَمْوَاجُ الأَفْكَارِ تَتَلَاطَمُ بَدَاخِلِي، وَ كَأَنَّ البَحْرَ قَدْ ثَارَ فَجْأَةً بَعْدَ سُكُونٍ طَوِيلٍ، يُرِيدُ جَرْفِي فِي تَيَّارَاتِ أَمْوَاجِهِ المُتَلَاطِمَةِ. أُحَاوِلُ عَبَثًا التَّمَسُّكَ بِرَاحَةٍ صَغِيرَةٍ، أَتَشَبَّثُ بِلَحْظَةِ هُدُوءٍ أَعِيشُهَا فِي ظِلَالِ اللَّيْلِ، وَ لَكِنَّ الأَفْكَارَ كَالتَّيَّارِ الجَارِفِ، الصَّارِخِ بِصَخَبِهِ الشَّدِيدِ، تَقْهَرُ جَمِيعَ مَحَاوَلَاتِي، لِتَأْخُذَنِي بَعِيدًا .. بَعِيدًا.
بَعْدَ كُلِّ هَذَا، أَجِدُ نَفْسِي غَارِقًا فِي بَحْرٍ مِنَ التَّسَاؤُلَاتِ الكَثِيرَةِ، الَّتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا، أَسْئِلَةٌ تَدُورُ فِي فَلَكِ المَاضِي، وَ وَاقِعِ الحَاضِرِ، وَ عَمَّا قَدْ يَأْتِي بِهِ المُسْتَقْبَلُ، تَدُورُ كُلُّهَا فِي ذِهْنِي بِلَا تَوَقُّفٍ، وَ أَنَا فِي حَيْرَةٍ مِنْ أَمْرِهَا وَ أَمْرِي.
فِي تِلْكَ اللَّحَظَاتِ الصَّعْبَةِ، يَبْدُو الزَّمَنُ وَ كَأَنَّهُ قَدْ تَوَقَّفَ، وَ صَارَ إِلَى حَالَةِ جُمُودٍ، فَلَا أَشْعُرُ بِمُرُورِ الدَّقَائِقِ وَ لَا حَتَّى السَّاعَاتِ. يُخَيَّلُ إِلَيَّ، حِينَئِذٍ، أَنَّ اللَّيْلَ قَدْ امْتَدَّ إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ، وَ أَنَّنِي تَائِهٌ فِي لُجَّةِ تَفْكِيرِي، وَ هَذَا مَا يَجْعَلُنِي فِي تَرَقُّبٍ أَكْثرَ حَذَرًا.
قَدْ أَسْتَرْجِعُ بَعْضَ الذِّكْرَيَاتِ مِنْ طُفُولَتِي، أَسْتَحْضِرُ وُجُوهَ أَشْخَاصٍ عَرَفْتُهُمْ، عِشْتُ مَعَهُمْ، رَحَلُوا عَنْ حَيَاتِي، أَوْ أَبْحَثُ عَنْ إِجَابَاتٍ لِأَسْئِلَةٍ لَمْ أَجِدْ لَهَا حَلًّا بَعْدُ. كُلُّ فِكْرَةٍ تَأْخُذُنِي إِلَى أُخْرَى، وَ كُلُّ ذِكْرَى تَفْتَحُ أَمَامِي أَبْوَابًا جَدِيدَةً مِنَ التَّأَمُّلِ وَ البَحْثِ، لِتَسْتَمِرَّ تِلْكَ الدَّوَّامَةُ.
وَ أَنَا وَسَطَ هَذَا البَحْرِ الهَائِجِ، أَشْعُرُ أَحْيَانًا أَنَّنِي أَقِفُ عَلَى شَاطِئِ الحَقِيقَةِ، قَرِيبًا جِدًّا مِنْ فَهْمِ شَيْءٍ مَا كُنْتُ أَجْهَلُهُ طَوِيلًا، وَ لَكِنْ مَا إِنْ أَمُدَّ يَدِي لِأَلْتَقِطَهُ، حَتَّى تَنْسَحِبَ المَوْجَةُ مِنْ تَحْتِ قَدَمِي، فَأَجِدَ نَفْسِي مَرَّةً أُخْرَى فِي قَلْبِ التَّيَّارِ، لِأُعَاوِدَ مُصَارَعَتَهُ مِنْ جَدِيدٍ.
أُحَاوِلُ جَاهِدًا مَقَاوَمَةَ هَذَا السَّيْلِ الجَارِفِ، أُحَاوِلُ اسْتِعَادَةَ السَّيْطَرَةِ عَلَى أَفْكَارِي، أَنْ أُعِيدَ تَرْتِيبَهَا، وَ لَكِنَّهَا تَتَنَاثَرُ مِنِّي كَالرِّمَالِ بَيْنَ الأَصَابِعِ، فَتَحْصُلُ حَالَةٌ مِنَ التَّوَهَانِ لِتَرْمِيَ بِي فِي لُجَّةِ الضَّيَاعِ.
عَلَى هَذَا النَّحْوِ، مِنَ الفِعْلِ وَ رُدُودِ الفِعْلِ، أَكُونُ أَمْضَيْتُ لَيْلَتِي، وَ أَنَا غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى الخُرُوجِ مِنْ تِلْكَ الدَّوَّامَةِ، لِأَشْعُرَ بِالرَّاحَةِ وَ الهُدُوءِ وَ الاسْتِقْرَارِ.
تعليقات
إرسال تعليق