كتب / السيد هاشم باحث فى العلوم السياسية والعلاقات الدولية
فى نهاية اليوم الذى احتفى به المصريون ، كبادرة أمل فى حرية و عدالة اجتماعية و حياة كريمة بمعنى الكلمة ، أناشد المصريين من أصحاب الفِطَر السليمة على اختلاف ثقافاتهم و مستوياتهم العلمية و مذاهبهم الدينية و ميولهم السياسية ، كونهم يحملون علماً يستطيعون به التدليل على صدق التطابق بين وحى التجربة الإنسانية و وحى السماء فكلاهما يهدى الناس جميعاً إلى ما يُصلحُ أحوالهم .
من هذا المنطلق الإنسانى المحض الذى يعتمد على خلق التجانس بين الأفكار المتباينة و المتعارضة و المتقاطعة و المتراكبة ، و وقوفاً على مجريات الأحداث و أسبابها ونتائجها و آثارها ابتداءاً بالخامس و العشرين من يناير و انتهاءاً بالثلاثين من يونية ، لابد أن نكون قد استوعبنا الدروس و فهمنا ما أُخفى عنا و قد دُبِّرَ لنا بليل ، على مر القرون .
لذلك و دائماً ، يجب أن نعود إلى الوراء و ننظر فى الأحداث و الصور و ما خَلَّفت من نتائج ثم ننظر فى و نحلل نظرة الآخرين إلينا ، و يجب أن نقرأ تاريخ الأمم السابقة و نستفيد من تجاربها ، و انتبه لقول الشاعر و المؤرخ الأثينى سيمونيدس ، عندما قيَّم ما آلت إليه الحرب بين أثينا و اسبرطة : " هزمناهم ليس حين غزوناهم ، و إنما هزمناهم حين أنسيناهم تاريخهم" . و كما قيل يا سادة : إن التاريخ بحق هو ظل الإنسان على الأرض ، بمثل ما إن الجغرافيا هى ظل الأرض على الزمان .
فى سابق عهد ، ابتدع الغرب فكرة القومية العربية لإحلال عقيدة ثقافية محل العقيدة الدينية كمشروع لطمس الهوية ، و منفذاً للتقسيم المجتمعى ، و واجب كل ذى رأى و عقل هنا أن يعمل على أن تكون فكرة القومية العربية جامعة و مرتبطة بشكل وثيق بانتماءاتنا الدينية لا تنفصل عنها .
ما نقصده إذن ، ضرورة التأكيد على أن نوصف واقعاً اجتماعياً شاخصاً أمام أعيننا يتأثر بنظامنا السياسى و ظروفنا الإقتصادية ، كما يتأثر بفعالية السلوك من حولنا ، محلياً و دولياً ، شرط ألا يضر بالترابط بين أبناء جلدتنا و مجتمعهم ، ذلك الترابط الذى هو فى جوهره التزام متبادل بين المجموعة و الفرد . و إلا ماذا نحن فاعلون فى عالم سمته الفوضى ليس فيه سلطة عليا تحكم و تنظم العلاقات بين الدول على أساس من المساواة و العدل ؟ عالم تسوده الأطماع فى موارد الغير و يقهر فيه الكبيرُ القوى أولئك الصغار الضعفاء ؟
ماذا نفعل و قد علمنا أن العالم لا تحركه السياسة و الإقتصاد فقط ، و إنما يتحرك من خلال الترويج لمعتقدات دينية تهدم ثوابت الأديان ؟
الإجابة على هذه الأسئلة ، تتجسد فى استحداث الفيلسوف و المفكر الروسى (الكسندر دوجين) للنظرية السياسية الرابعة التى تقف مانعاً أمام الأفكار الماركسية و الليبرالية و الفاشية و من ثم الدفاع عن أخلاق الكنيسة الشرقية الأرثوذكسية الروسية أمام الليبرالية الجديدة التى يتبناها الفاتيكان بأفكارها المتطرفة كالمثلية الجنسية ono-sex ، و تقبل فكرة أن الطفل ابن للمجتمع لا للأسرة ، و يحق له أن يغير جنسه gender وقتما شاء .
كذلك نجد الإجابة فى الثقافة الصينية التى سبقت نظرية دوجين ، بتأثير الثورة الثقافية فى الصين التى تبناها الزعيم ماو تسى تونج فى سبعينات القرن الماضى .
و ما الإبراهيمية كمفهوم سياسى إلا التفاف على نظرية المؤامرة - التى يقتنع بها العرب - بغرض سيادة النموذج الأمريكى من خلال صهر الأديان ، ثم إعادة صياغة التاريخ بما يضمن قبول إسرائ***يل فى المنطقة و الشاهد على ذلك شروع الأونوروا فى تغيير مناهج الصف الرابع الإبتدائى فى فلسطين ، حيث غيروا عبارة القدس عاصمة فلسطين ، إلى المدينة الإبراهيمية .. إلا أن المحاولة لم تنجح بسبب الرفض الشعبى .
يحدث كل هذا فى الوقت الذى ينظر فيه الشخص منا - فى مجتمعاتنا التى تخلفت حضارياً عن غيرها - إلى تخلفه عن الشخص الذى يعيش فى بلد متقدم ، و هو يلاحظ شيئاً فشيئاً أن الذى يفصل بين الشعوب ليس المسافات الجغرافية و إنما هى مسافات ذات طبيعة أخرى لا يستطيع توصيفها.
العربى على العموم بسبب عقدة تخلفه يرُد هذه المسافة إلى نطاق (الأشياء المادية) أو هو بتعبير أكثر بساطة يرى أن تخلفه يتمثل فى نقص ما لديه من أسلحة متطورة أو أجهزة حديثة فائقة التقنية أو المصارف و شركات التأمين الكبرى على سبيل المثال ، و بذلك يُفقِد مركب النقص لديه فاعليته الإجتماعية إذ ينتهى من الوجهة النفسية إلى التشاؤم كما ينتهى من الوجهة الإجتماعية إلى الركود أو الركون أو التبعية و لكى يصبح مركب النقص لدى العربى فعالاً مؤثراً ينبغى أن يرد العربى تخلفه إلى مستوى الأفكار (الإبتكار) لا إلى مستوى الأشياء ، فإن تطور العالم الجديد دائماً يتركز اعتماده على التنافسية الفكرية .
لذلك يجب أن يكون لنا نظريتنا الخاصة ، و أسلوبنا الخاص بينما نعيش فى عالم الأفكار فيه تسبق السلاح عند اعتداء دولة على أخرى .
و حسبنا ذلك التدبير الذى يجرى فى إطار ( المركزية الإفريقية) الأفرو سينتريك ، و هى حركة سياسية إجتماعية نشأت فى أمريكا و أوروبا فى ثمانينات القرن الماضى عن طريق موليفى أسانتى ، بتشجيع و تمويل من الأنظمة الأمريكية و الأوروبية التى تهدف للتخلص من السود كما تخلصت من قبل من اليهو - د ، أما هدف الأفروسنتريك إبراز فضل الحضارة الإفريقية على الحضارات فى العالم و ينسبون زوراً الحضارة المصرية القديمة إلى ملوك إفريقيا ، و يعتقدون أن الشمال الإفريقى يعود لون بشرة سكانه إلى الغزو العربى و الرومانى و أن السكان ليسوا أصليين و يعملون لإزاحتهم و الحلول محلهم .. عموماً هذا الأمر لن أخوض فيه لأنه يستحق التوسع و الإستفاضة .
اقرا ايضابرقية عزاء ومواساة
أخيراً لا أريد أن أنتهى من مقالتى دون أن أتعرض لمفهوم الثورة التى هى فى الغالب ضد الحضارة ، وحسبنا فى ذلك ما دونه د.جمال حمدان فى كتابه (شخصية مصر) عن مفهومه للثورة يقول : " إن ما تحتاجه مصر أساساً إنما هو ثورة نفسية ، بمعنى ثورة على نفسها أولاً و ثورة على نفسيتها ثانياً ، أى تغيير جذري فى العقلية و المُثُل و إيديولوجية الحياة قبل أى تغيير حقيقى فى حياتها و كيانها و مصيرها .. ثورة فى الشخصية المصرية على الشخصية المصرية .. ذلك هو الشرط المسبق لتغيير شخصية مصر و كيان مصر و مستقبل مصر" .
و ينتقل حمدان إلى موضع آخر موصفاً الوضع فى عصره ، و هو المتوفى فى ١٧ إبريل ١٩٩٣ فيقول : " المأساة الحقيقية فى ذلك أن مصر لا تأخذ فى وجه هذه الأزمات الحل الجذري الراديكالى قط ، و إنما الحل الوسط المعتدل ، أى المهدئات و المسكنات المؤقتة و النتيجة أن الأزمات تتفاقم و تتراكم أكثر ، و لكن مرة أخرى تهرب مصر من الحل الجذرى إلى حل وسط جديد و هكذا " .
** نود أن ننبه هنا أن هذا الوضع ظل قائماً منذ ثورة يوليو ١٩٥٢ حتى ثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٣ و بالأحرى حتى بداية تولى الرئيس السيسى حكم مصر فى يونيو ٢٠١٤ .
يكمل حمدان توصيفه للوضع السابق : " بعبارة أخرى مأساة مصر فى هذه النظرية هى الإعتدال فلا تنهار قط و لا تثور أبداً ، و لا هى تموت أبداً و لا هى تعيش تماماً .. إنما هى فى وجه الأزمات و الضربات المتلاحقة ، تظل فقط تنحدر و تتدهور و تطفو و تتعثر دون حسم أو مواجهة حاسمة تقطع الموتَ بالحياة أو حتى الحياة بالموت منزلقة أثناء هذا كله من القوة إلى الضعف و من الصحة إلى المرض و من الكيف إلى الكم ، و أخيراً من القمة إلى القاع " .
و أستطيع أن أقول بلا خجل : إن السيد الرئيس عبد الفتاح السيسى قارئ جيد لجمال حمدان الفيلسوف و المفكر المصرى ، و مؤيد لأفكاره ، و أدلل على ذلك .......
ذكر جمال حمدان فى كتابه (قناة السويس نبض مصر)١٩٧٥ أن قناة السويس هى نبض مصر و القلب النابض فى النظام العالمي و هى مركز النقل الأول إلى أوروبا ، و دعا إلى توسعتها حتى تكون مصلاً مضاداً لوباء الناقلات العملاقة .
و فى حفل افتتاح تفريعة قناة السويس الجديدة فى أغسطس ٢٠١٥ أشار السيد الرئيس إلى جمال حمدان قائلاً : "ها هى نبوءة جمال حمدان تتحقق" .
أخيراً يتوقع حمدان مستقبل بلاده بالقول : "مصر اليوم إما القوة و إما الإنقراض إذا لم تتحرك لتكون قوة عظمى تسود المنطقة بأسرها ، فسوف يتداعى عليها الجميع يوماً ما ، أعداء و أشقاء ، و أصدقاء أقربين و أبعدين " .
و هذا يفسر تحرك القيادة المصرية فى هذا الإتجاه لتكون قوة عظمى رغم ما يتطلبه من تكلفة باهظة ، يصبر الشعب المصرى على تحمل نفقاتها من خلف قيادته لعلو إرادته فى أن تكون مصر قوة عظمى .
تعليقات
إرسال تعليق