كثيراً ما يتردد على أسماعنا ونقرأه عن حزب (شاس) اليهودى المُتَشَدِّد وهو حزب سياسى قائمٌ على أساسٍ دينى ، وهذا الحزب لديه مشكلة أزلية فى نفسهِ مع العرب من جِهة ومع اليهود من جِهةِ أُخرى ، فهم يرون أنَّ أرض إسرائيل الَّتى كانت ومازالت إلى الأن تًسمى فلسطين يُدَنِّسُها وجود غيرَ يهودى من العرب وغيرهم مِمَّن يُطلقُ عليهِم فى التَوراة (الأُمم أو الأُمَميين) ، ويرون أيضاً أنَّ دولة إسرائيل تتهاون أحيانًا فى تطبيق الشريعة فتسمح بالعمل فى أيام السبت ، وتتراخى فى أمور مصيرية كالختان ، ويرون أنَّه من الضرورى الإسراع فى تطهير أرض الرَّب كى تكون فقط لأبناء الرَّب ، الَّذين هُم أحفادُ إبراهيم ويعقوب المُسمى عندهُم (إسرائيل) عِلما بأنَّنى لى وجهة نظر فى هذا الموضوع كما أسلفت فى بحث بعنوان (من هو إسرائيل) ، ولا يحِق لغيرهم أن يسكن هذه الأرض مع أنَّه بحسب زعمهم فى التَّوراة ما نَصَّهُ (لِنسلِكَ يا إبراهيم أُعطى هذه ألأرض من النَّهرِ إلى النَّهرِ) ولو أفترضنا أنَّ هذا الزَّعم زعماً صحيحاً فلا غَضاضة فى أن يكون على الأرض عرب لأنَّهم أيضاً من نسل إبراهيم وهُم أبناء إسماعيل بن إبراهيم كما أنَّ اليهود من نسل إسحاق بن إبراهيم إذن فإنَّ الوعدَ قد تحقق ولا يوجد إشكالية ، ولكنَّهُم يَرونَ أنَّ العرب الأباعد أو المُبْعَدون أبناء الجارية المُهَجَّرون من هذه الأرض لا بُدَ مِن إبعادَهُم مِثلَ أُمُّهُم هاجر ! وهذا ما يراه ويعتقده حزب شاس .
ماذا تعنى كلمة شاس :
شاس هى عبارة عن حروف مُختَصَرة من الكلمة العِبرية (شَيشَّاه سدريم) وتعنى التَقسيمات السِّتَّة أى (التَلمود) الَّتى يقع فى سِتَّة مَباحث (مُجَلَّدات) لكل مَبحث منها مباحث فرعيَّة أُخرى ، مِما أدَّىَ إلى تسمية دولة إسرائيل (اليهودية التلمودية) ويُسمونها أيضا (اليهودية الحاخامية) على اعتبار أن الحاخامات هم فُقهاء الدين اليهودى وهُم الَّذين كتبوا التلمود ، علما بأنَّ التوراة هى الكتاب الأول والأكثر قداسة .
التوراة والتلمود :
ظهرت التوراة بين أيدى اليهود فى القرن الخامس قبل اليلاد أى بعد موسى عليه السلام بخمسةِ قرون وقد دوَّنها أحد الحاخامات اليهود ويُدعىَ (عِزرا الكاتب) وقد قَصَّ فيها قِصَّة بدء الخليقة ، ووقائع حياة كبار الأنبياء مثل إبراهيم ويعقوب الَّذى تَمَّ إستبدال اسمه الحقيقى يعقوب بإسمٍ إسرائيل لأنَّه تصارع مع الله (إيل) وغَلَبهُ ! وتفاصيل خروج بنى إسرائيل من مِصر ، وتخريب مصر يوم (الفِصح) فى زمن موسى من وجهة نَظر التوراة الَّذى كان يعيش فى مصر قبل عِزرا الكاتب بحوالى خمسمائة عام . ولكى يَصبِغها بِصِبغة إلاهيَّة قال أنَّه يوحىَ إليه مِن الروح القُدُس (هرُّوح هَمقُّودِش) وبذلك يكون ليس هو الَّذى كتبها من تلقاء نفسه وإنَّما كانت تُملى عليه من السَّماء ، وهذا يعنى أنَّ التوراة قد كُتِبَت قبل ميلاد السيد المسيح يسوع (عيسى بن مريم) بقرابة ألف عام ويقول اليهود أنَّها قد كُتِبَت فى أورشليم (القدس) وذلك بعد انتهاء السَبى البابلى الَّذى قام به الأمبراطور (نبوخَذْ نَصَّر) حين سبى شعوب الهلال الخصيب بأكملها أثناء احتلال الفُرس لكل المنطقة (سوريا ولبنان والعراق وفلسطين) لكى يعملوا بالسُّخرة فى بابل فىى بناء بُرج حدائقى وبحسب ما ذكرت التوراة أنَّ الرَّبَ اغتاظَ من هذا العمل فنزل من السَّماء ودَمَّرَ المدينة (بابل) وبلبَلَ ألسِنة النَّاس من يومِها فصاروا يتحدَّثون لُغات مُختَلِفة وهذا هو التَفسير التوراتى لإختلاف لُغات البشر !!!
أمَّا التلمود فقد كُتِبَ فى أوائل القرن الثالث الميلادى ودَوَّنه أحد الحاخامات ويُدعى (يَهوذا هنَّاسى) بعد سقوط أورشليم وتخريبها وهدم الهيكل على يد الأمبراطور الرُّومانى إليانوس هادريانوس الَّذى محا أورشليم تماماً من الوجود وبنى بدلاً منها مدينة أُخرى سُميَّت بإسمهِ (إيليا) ولكن العرب كانوا ينطقونها بإسم (إيلياء) حتى جاء الإسلام فَغيَّروا أسمها إلى (بيت المَقدِس) وهذه هى التَّسمية العبريَّة للمدينة من قبل (بيت هامقيداش) وفى هذه المدينة تم كِتابة مسودَّات التلمود على يد أحبار اليهود ، ثُمَّ جاء بعد ذلك يهوذا هنَّاسى ونَقَّحَ ما كتبوه واستَكَملَهُ ، فظهرت تلك المباحث السِّتَّة الَّتى تُعرف باسم التلمود ، وهى الشريعة اليهودية (الشفاهية) فى مُقابل الشَّريعة اليهودية (المكتوبة) لأنَّهُ وِفقاً للإعتقادات اليهودية فإنَّ موسى التوراتى جاء بالشَّريعة الأولى المكتوبة وهى التوراة ثُمَّ جاء يهوذا هنَّاسى بالشريعة الثانية الشفاهية وهى التلمود ، واليهود الأرثوذوكس شديدو التَّمَسُّك بالتلمود .
الأرثوذكسية :
الأرثوذكسية هى كلمةً يونانية الأصل ، وتعنى (الإستقامة) ولكنَّها فى مصر أخذت مُصطلح الإيمان القويم ، وقد استُعمِلت هذه الكلمة قديماً فى اليهودية وايضا فى المسيحية لكى تُفَرِّق بين أصحاب العقيدة القويمة والإيمان المستقيم وغيرهم الَّذى يًعتبر خارجاً عن المِلَّة أو بالمُصطلح الكنسى (هُرطوقى) وهذا هو نفسه ما حدث فى الإسلام ، إذ أنَّ جماعة بعينها السَّلفيَّة وهى ما تُعادل الأرثوذكسية فى اليهودية والمسيحية من النَّاحية الفكريَّة ، وهذا ما يُحيلنا إلى حديث رسول الله صلَّى الله عليه وسلم الشريف (لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ من قَبلكُم شِبراً بشِبراً وذِراعاً بذِراعاً حتَّىَ إذا دخلوا جُحرَ ضَبٍّ لدَخَلتموه ، قالوا اليهود والنَّصارى يا رسول الله ؟ ، قال فَمن ؟ !) ويبدو أنَّ الفِكر الدينى الأرثوذكسى بصفةٍ عامة فى كل المُعتقادات الدينية يتعلَّق عادةً بالنَّص الثانى من نصوص الديانة ، فنجد أنَّ التوراة فى اليهودية هى النَّص الأول الَّذى يضُم أسفار موسى الخمسة (التَّكوين - الخروج - اللَّاويين - العدد - التَّثنية)وقد لحقت بها أسفار أُخرى للأنبياء الكبار من أمثال إشعيا وإرميا ، والأنبياء الصِغار من أمثال عاموس وحبقوق ومن مجموع هذه الأسفار كلَّها يتألَّف (العهد القديم) الَّذى يُقَدِّسهُ اليهود والمسيحييون معاً ، لكنَّهما ينفصِلان من بعد ذلك فى تقديس المسيحيين للأناجيل وتقديس اليهود للتلمود . والتلمود هو النَّص الثانى فى اليهودية ، ويتكون من قسمان الأول يُسَمَّىَ المِشناة (المِثناة) الَّتى تَضُم المَباحِث السِّتَّة ، والثَّانى يَسَمَّىَ (الجِمارا) وهى كلمةٌ أرامية ، حيثُ أنَّ الأرامية (السُريانية) كانت هى اللُّغة السائِدة آنَ ذاك فى فلسطين ٍوهى اللُّغة الَّتى تَكلَّمَ بِها السَّيد المسيح عليه السَّلام ، وكان اكتِمال كتابة التَلمود (المِشناة والجِمارا) فى القرن الخامس الميلادى ولكنَّه ظل بعدها محجوباً فترة بأيدى الجماعات اليهودية ، حتَّى انتبه إليهِ مسيحيّوا أوروبا وغاظَهُم ما فيه من تَهَكُّم على السيدة مريم العذراء وابنها المسيح (هَمَّشيح) فكانوا يحرقون التلمود كُلَّما بلغ بهم هذا الغيظُ من التلمود مُنتهاه ، واستمر الحال على هذا المِنوال بين شَدٍّ وجذب ، حتَّى تَعَرَّف النَّاس رويداً رويداً على التلمود وترجموه إلى اللُّغات الأوروبية المُختَلفة دون أن يُقَدِّسوه بالطَّبع لأنَّهُم مسيحيون يُقَدسون فقط العهد القديم أو التَّناخ (التوراة وأسفار الأنبياء) والعهد الجديد (الأناجيل وأعمال الرُّسُل) ، فانفرد عنهم اليهود بتقديس التلمود ، وتزايدت أهميَّته عندهُم لأنَّه يُمَثلُ شريعتهُم الموسويَّة ، ويُمَيِّزَهُم عن المَسيحيين الَّذين هُم من وجهة نظر اليهود مُجَرَّد ضالين ، يَتَوَهَّمون أنَّ المسيح (الماشيح) المُنتَظر جاء . ومع تزايُد أهَميَّة التلمود ، أى المِشناة وشروحها المُسماة الجِمارا صارت التلمودية صِفة أساسية لليهود ، لذلك سُميت اليهودية المُعاصِرة باليهودية التلمودية وباليهودية الحاخامية ، وصار التلمود عِند اليهود أهم من التوراة لأنَّه يُنَظِم تفاصيل الحياة اليومية ، ويؤكِد الشريعة الَّتى صاغها أجيال الفُقهاء (الحاخامات) خلال ما يقرُب من ألف سنة ولمَّا قامت دولة إسرائيل فى مُنتَصف القرن العِشرين ، صار التلمود أكثر أهميَّة لأنَّه بمنزلة الأساس الَّتى تستمد منه الدولة اليهودية ملامحها الدينية .
متى عرف العرب التلمود :
عرف العرب التلمود (المشناه) قبل ظهور الإسلام وقد ورد فى كتب التاريخ الإسلامية المبكرة أن الخليفة عمر بن الخطَّاب ثانى الخلفاء الراشدين وجد جماعة من الصحابة يكتبون الأحاديث النبوية فى رقاع (قطع من الجلد) فثار عليهِم وصاح فيهم (أمِثناةٌ كمِثاةِ أهلِ الكتاب) وأمرهُم بمحو ما كتبوه وإتلاف هذه النصوص خشية منه على المسلمين أن تُشَوِّش هذه (الأحاديث الشَّفوية) على أفكارهم وتصرفهُم عن الوحى المكتوب (القُرآن الكريم) وفى قول الخليفة عمر بن الخطَّاب (المِثناة) هى الترجمة العربية الدقيقة لكلمة (المشناة) بالعبرية والتى تعنى فى أصلها الكتاب الثانى بعد التوراة أى النَّص الثانى وهو ما جرى فى تراثنا الدينى بعد ذلك ، حين اعتُبِرت الأحاديث النبوية هى المصدر الثانى للتشريع بعد القُرآن الكريم الَّذى هو المصدر الأول ، فصار حالنا مُصَدِّقاً للحديث الشريف ( لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ مَن قَبلَكُك شِبراً بشِبراً وذِراعاً بِذِراعاً حتَّى إذا دخلوا جُحرَ ضَبٍ لدخَلتموه ، قالوا اليهود والنَّصارى يا رسول الله ؟ ، قال فمن !!) صدق رسول الله
بقلم / ممدوح العيسوى
تعليقات
إرسال تعليق