القائمة الرئيسية

الصفحات

تحرير سيناء ملحمة عسكرية وسياسية

حماد مسلم يكتب
 
...............     
ستظل ملحمة تحرير سيناء نموذجًا محترفًا ناجحًا يتدارسه العالم، ويتشرف ويفخر به المصريون؛ لأنه في حقيقة الأمر يتكون من ملاحم من المعارك الحربية والسياسية والدبلوماسية والقانونية، امتدت من حرب يونيو 1967، ثم حرب الاستنزاف، وبعدها حرب أكتوبر 1973، ثم المفاوضات والسلام.أدت النتائج المباشرة لحرب أكتوبر 1973 إلى تحطيم نظرية الأمن الإسرائيلية؛ وهي احتلال أرض خارج حدودها، والاستناد إلى الموانع الطبيعية، مثل قناة السويس، والصناعية مثل الساتر الترابي وخط بارليف؛ مما أدى إلى فتح طريق السلام بالقوة.
حاربت مصر في أكتوبر 1973 ليس من أجل الحرب ولكن من أجل تحقيق السلام القائم على العدل، والذي حاولت مصر طرحه قبل الحرب ورفضته إسرائيل؛ فقد فشلت محاولات السلام قبل الحرب؛ لأن إسرائيل اعتقدت أنها حققت أهدافها باحتلالها للأرض، وأن مصر في وضع أقل عسكريًّا، وبالتالي من غير المناسب أن تتنازل إسرائيل عما حققته دون مقابل، لذا كان لزامًا إسقاط نظرية الأمن الإسرائيلية للوصول إلى المفاوضات من موقع النديَّة، وإقناع إسرائيل من موقع القوة أن التفاوض هو السبيل للوصول إلى السلام والاستقرار
الحرب هي استخدام القوة العسكرية لدعم الأهداف السياسية، ويعتمد معيار النصر في أي حرب على تحقيق الأهداف النهائية للدولة، سواء باستخدام القوة العسكرية أو السياسية أو كليهما.
وبالنسبة لأهداف مصر قبل الحرب، فالواقع أن الحرب لم تكن هدفًا في حد ذاتها، ولكنها كانت أداة لا بديل عنها لتحقيق كسر الجمود، ولذلك بنيت فلسفتها على إسقاط نظرية الأمن الإسرائيلية العدوانية، وقلب الموازين التي سيطرت دائماً على فكر إسرائيل، وإقناع إسرائيل أن البديل الوحيد الذي يحفظ لها أمنها هو السلام ولا شيء غيره، وبناء على ذلك كانت الأهداف المصرية من خوض الحرب كما حددها الرئيس السادات طبقًا لما ورد في التوجيه الاستراتيجي الصادر من رئيس الجمهورية إلى وزير الدفاع قبل 6 أكتوبر 1973، والذي نصّ على الآتي:
توجيه استراتيجي من رئيس الجمهورية القائد الأعلى للقوات المسلحة إلى الفريق أول أحمد إسماعيل على، وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة: ( )
1- بناء على التوجيه السياسي العسكري الصادر لكم مني في أول أكتوبر 1973 وبناء على الظروف المحيطة بالموقف السياسي والاستراتيجي:
• إزالة الجمود العسكري الحالي بكسر وقف إطلاق النار اعتبارًا من يوم 6 أكتوبر 1973.
• تكبيد العدو أكبر خسائر ممكنة في الأفراد والأسلحة والمعدات.
• العمل على تحرير الأرض المحتلة على مراحل متتالية حسب نمو وتطور إمكانات وقدرات القوات المسلحة.
2- تنفيذ هذه المهام بواسطة القوات المسلحة المصرية منفردة، أو بالتعاون مع القوات المسلحة السورية.
أما أهداف إسرائيل قبل الحرب، فقد كانت تتلخص في منع المصريين من عبور قناة السويس، وحماية الوجود الإسرائيلي من الهجمات عبر خط بارليف، والبقاء في سيناء للأبد، وإرغام مصر على الاستسلام، وأن تبقى في حالة اللاحرب واللاسلم.
وقد أدت النتائج المباشرة لحرب أكتوبر 1973 إلى تحطيم نظرية الأمن الإسرائيلية؛ وهي احتلال أرض خارج حدودها، والاستناد إلى الموانع الطبيعية، مثل قناة السويس، والصناعية مثل الساتر الترابي وخط بارليف، وقد أدى إسقاط هذه النظرية إلى فتح طريق السلام بالقوة، بعد سنوات مضنية من الجهود المصرية والدولية للسلام في أعقاب حرب يونيو 1967، والتي لم تسفر عن أي نتائج، أو تفتح الطريق لحل النزاع. 
من أهم الأسباب التي جعلت مصر تقبل وقف إطلاق النار هو تحقيق مصر للهدف من الحرب، وهو إسقاط نظرية الأمن الإسرائيلية وكسر غرور قادتها، وأيضًا من أسباب قبول وقف إطلاق النار هو تدخل أمريكا بوضوح في الحرب لصالح إسرائيل منذ بدايتها، والوقائع كثيرة؛ ولكن سيتم التركيز على أهمها، على سبيل المثال لا الحصر، وهي: 
 
• لجنة (WSAG)
منذ يوم السابع من أكتوبر تشكلت لجنة أُطلِق عليها لجنة (WSAG) اختصارًا لـ (Washington Special Action Group)، يُشرف عليها الرئيس الأمريكي في هذا الوقت "ريتشارد نيكسون" بنفسه، وتتكون من وزير الخارجية "هنري كيسنجر" الذي كان معينًا لتوِّه على رأس الدبلوماسية الأمريكية، ورئيس هيئة الأركان المشتركة، ووزير الدفاع، ورئيس المخابرات (CIA)، إضافة إلى السفير الأمريكي "سيمحا دينتز"، وذلك لدعم إسرائيل بقوة بعد استغاثة رئيسة الوزراء الإسرائيلية "جولدا مائير" وبكائها في مكالمة تليفونية للرئيس الأمريكي "نيكسون" في صباح السادس من أكتوبر قائلة "أنقذونا من ذلك الطوفان العربي"، وأصدرت هذه اللجنة العديد من القرارات التي تم تنفيذها فورًا لصالح إسرائيل وبإمكانات ودعم مباشر من الرئيس الأمريكي، والذي تمثل في الجسر الاستراتيجي الأمريكي لإسرائيل، والاستطلاع الاستراتيجي للجبهة بواسطة أمريكا لصالح إسرائيل.
• الجسر الاستراتيجي من أمريكا لإسرائيل
بدأت الإمدادات الأمريكية السريعة لإنقاذ الجيش الإسرائيلي بعد يوم واحد من بداية الحرب، والتي كانت عبارة عن 200 طن معدات عسكرية، تم دفعها على وجه السرعة يوم 7 أكتوبر، تبعها جسرٌ استراتيجيٌّ جوىٌّ وبحريٌّ في وقت واحد، أُطلق عليه عملية " نيكل جراس"، وتتكون عملية "نيكل جراس" من جسرين أحدهما الجسر الجوي الشهير، الذي بدأ واستمر بشكل علني من 13 أكتوبر إلى 14 نوفمبر 1973، ونقل إلى إسرائيل نحو 22.5 ألف طن، والثاني هو الجسر البحري الذي يعد الأضخم من حيث حجم المعدات والأسلحة الثقيلة، حيث نقل 63 ألف طن أخرى، بإجمالي (85.5) ألف طن من الأسلحة النوعية المتطورة خلال 32 يومًا. وتم تنفيذ الجسر الجوي بواسطة عدد كبير من الطائرات الأمريكية طراز (سي-5)، وهي طائرات شحن ضخمة جدًّا، تصل حمولتها إلى 108 أطنان، وأيضًا طائرات (سي- 141) الأمريكية، بلغت حمولتها 32 طنًّا. هذا وقد أصدرت لجنة (WSAG) تعليماتها بسحب طائرات قتال من أسراب سلاح الجو الأمريكي مباشرة وإرسالها إلى إسرائيل، بمعدل طائرة مقابل كل طائرة يسقطها الجيش المصري، وذلك من قوة طائرات الأسراب الأمريكية العاملة في سلاح الجو بعد مسح علامة الجيش الأمريكي، ووضع علامة الجيش الإسرائيلي بدلًا منها. 
• الاستطلاع الاستراتيجي للجبهة بواسطة أمريكا لصالح إسرائيل 
قامت طائرة الاستطلاع الاستراتيجي الأمريكية طراز (SR 71) بعملية تصوير جوي للجبهة المصرية يوم 12 أكتوبر، وتم عرض الصور على اللجنة الأمريكية (WSAG)، وأيضًا إرسالها إلى إسرائيل، ورغم أن الدفاع الجوي المصري رصد الطائرة، لكن لم يكن في إمكانات الدفاع الجوي المصري إسقاطها أو اعتراضها، ولا حتى بواسطة القوات الجوية المصرية؛ لأنها كانت تطير على ارتفاع أكثر من 80 ألف قدم، وإمكانات طائرات القوات الجوية المصرية والدفاع الجوي لا تتعدى 40 ألف قدم. وأظهرت صور الاستطلاع سوء أوضاع القوات الإسرائيلية على الأرض، واستحالة دفع القوات المصرية إلى أوضاعها السابقة غرب القناة، وهو الأمر الذى جعل إسرائيل تقبل وقف إطلاق النار، وقبلت مصر أيضًا وقف إطلاق النار؛ للتدخل الأمريكي الواضح والمستمر لصالح إسرائيل، وذلك لأنه يجب أن نجلس على طاولة المفاوضات ونحن نملك قوات مسلحة قوية تمتلك من التسليح ما يمكنها من بدء عمليات عسكرية أخرى في حال فشل المفاوضات، وقد ظهر ذلك بوضوح في بداية عملية السلام حينما قال الرئيس "السادات" بثقة أمام الكنيست الإسرائيلي 1977: "لقد جئت إليكم اليوم على قدمين ثابتتين"، في حين كان قادة إسرائيل يجلسون أمامه يعلو وجوههم الحزن والانكسار بعد أن وضعهم في مأزق مرتين؛ الأولى الحرب، والثانية اقتراح السلام من موقع القوة. 
وختامًا، يمكن القول إنه تم استغلال نصر أكتوبر 1973 والتحرك مباشرة نحو المفاوضات لتحقيق الهدف النهائي وهو استعادة سيناء؛ لأن الانتظار لم يكن في صالح مصر، حيث كان البدء في التفاوض مع القيادات الإسرائيلية التي تمت هزيمتها في 73 أفضل من الانتظار سنوات للتفاوض مع أجيال أخرى جديدة، خاصة أن قادة إسرائيل حاولوا تقديم السلام للمواطن الإسرائيلي كبديل عن هزيمتهم في الحرب.
كذلك مكَّن النصر مصر من استغلال موقف الإدارة الأمريكية التي عاصرت الحرب، وأدركت تمامًا أنها أمام نموذج مثالي لقوات مسلحة أقل في الإمكانات -(القوات المسلحة المصرية)- لكنها تمكنت من تحقيق أهدافها على قوات مسلحة أعلى منها، مع أهمية إشراك الولايات المتحدة كراعٍ للسلام بدلًا من الأمم المتحدة والاصطدام بقرارات مجلس الأمن التي لا تُنَفَّذ، وأيضًا استخدام بعض الدول لحق الاعتراض على قرارات مجلس الأمن، أو استقطاب دول أخرى أثناء عملية التصويت على القرارات.
وفي ضوء ذلك، ستظل ملحمة تحرير سيناء نموذجًا محترفًا ناجحًا يتدارسه العالم، ويتشرف ويفخر به المصريون؛ لأنه في حقيقة الأمر يتكون من ملاحم من المعارك الحربية والسياسية والدبلوماسية والقانونية، امتدت من حرب يونيو 1967، ثم حرب الاستنزاف، وبعدها حرب أكتوبر 1973، ثم المفاوضات والسلام، وحتى 19 مارس 1989حيث كان الاحتفال التاريخي برفع علم مصر معلناً السيادة على طابا، وإثبات حق مصر في أرضها، بامتداد زمني استمر 22 عامًا.

تعليقات