القائمة الرئيسية

الصفحات

 
صلى المصلي لأمر كان يطلبه
فلما انقضى الأمر لا صلى ولا صاما
هل جميع من تظهر عليهم سمات الخير والصلاح ملتزمون ظاهرًا وباطنًا، وهل يبتغون بما يقدمونه من أعمال جليلة مرضات الله تعالى ليفوزوا بالجنة ويتقون عذاب النار؟ 
 قبل الإجابة عن هذا السؤال دعونا نمعن النظر في هذه القصة:
كانت مدينة الإسكندرية مدينة عجيبة الشأن، أصيلة البنيان، بها كل أنواع التحسين والتحصين، ومآثر الدنيا والدين، كرمت مغانيها، ولطفت معانيها، وجمعت بين الضخامة والفخامة، فكانت فريدة في سناها، ساحرة في حلاها. أحاط بها سور عظيم لحمايتها، فكان له أربعة أبواب؛ باب السدرة وإليه يشرع طريق المغرب، وباب رشيد، وباب البحر، والباب الأخضر الذي لا يفتح إلا في يوم الجمعة، فيخرج الناس منه لزيارة القبور. وقد كان لها المرسى العظيم الذي لا يشابهه في ذلك الزمن سوى مرسى كول بالهند، ومرسى سرادق في بلاد الترك، ومرسى الزيتون بالصين، وقد كان لها منارة بحرية عظيمة، حارسة وثيقة، عجيبة غريبة، شيدها الإسكندر المقدوني، لحماية المدينة، من شر الأشرار ومن كيد الفجار، فكانت تلك المنارة تصدر أصواتًا تحذيرية،، لعموم سكان الإسكندرية باقتراب خطر وارد، لعدو طامع مارد. كان ذلك التحذير المتعاقب، يصل إلى الأسماع وتعيه الألباب، من على بعد خمسة أميال، فيجهز السلطان جيوشه لذلك قبل الوصول، فيحشد العتاد والرجال، فيكون الانتصار في النزال، ويسحق العدو في الحال، ليجر أذيال الهزيمة والوبال. تتابعت الحملات الصليبية على تلك المدينة المحروسة بانتظام، فكان الفشل حليفها في كل طلعة وعام. فضاق قادة الصليب بذلك أيما ضيق، وأطالوا النظر في الأفق، من الفجر وحتى ظهور الشفق، علهم يتوصلون لحل ناجح وراق، لهدم منارة الوفاق، فأرسلوا جاسوسًا داهية، صاحب قوة وحمية، وغيرة فتية، على أهداف قومه الصليبية، وسمى نفسه سلوم ، حيث استعار الاسم عارية، من أجل إتقان الدور بروية. وصل سلوم الإسكندرية، ومعه صرر بالذهب والفضة ملية، فوزعها بحيلة ذكية، على كل أرجاء الإسكندرية. بدأ الحاج سلوم في تعلم العربية، وتظاهر بالتدين والتقية، فما لبث أن انقطع إلى ممارسة العبادة، وحفظ القرآن وتجويد التلاوة، ومساعدة أرامل وأيتام وفقراء المدينة، فأحبه الحاضر من الناس والباد، بعد أن أصبح من أزهد العباد، في كافة أرجاء البلاد، وكان كثير الصبر والجلاد، مداوم على فعل الخيرات وتلاوة القرآن، فقربه السلطان أليه وأحسن معاملته، ورفع بين الناس مكانته، وأعلى في مراتب الدولة منزلته، فطاب له الحال ، بعد أن وصل إلى مراحل متقدمة من حبكة الاحتيال، ليعطيه السلطان بعدها الصلاحية، في تكليف الرجال بعموم المهام والأعمال، التي يرى فيها مصلحة وحسن مآل. فبدأ بتكليف مجموعة من رجال السلطان، يتقدمهم رجل اسمه سلطان، من حفر حفرة في الوديان، بحثا عن الكنوز والأموال، وبعد الانتهاء من الحفر الذي اتصف بالإتقان، تم العثور على صندوق بالمال ملآن، فجلس سلوم بكل أمان، يقلب في صندوقه الأعيان، ويتمتم بكلمات لا تكاد تفهم ولا تبان، ثم طلب من رجاله حمله إلى السلطان، ولكن قبل ذلك بردم المكان. ماهي الا سويعات حتى كان ما كان ، ووصل الصندوق إلى القصر بإمان ، فأشرق بذلك وتهلل وجه السلطان، فبالغ في إكرام سلوم الجربان، ظنًا منه أنه صادق البيان، صافي السريرة نقي الجنان. وداوم السلطان على الطلب من سلوم، الدعم بالمال متى ما ساءت الأحوال، واسودت الليالي والأيام، وكان سلوم خير خادم، وفي جميع الأحوال داعم، حتى إن خزينة الدولة لم تعد تحتاج إلى المال، جراء استخراج سلوم للثروات والكنوز من الرمال. ثم بعد أن انطلت الحيلة، وحان وقت الكية، ذهب سلوم إلى السلطان بنفس زهية، ليقدم له النصيحة الأبية، بالمسارعة في هدم المنارة الزكية، التي أفسدت جميع الحملات والغزوات الصليبية، معللا ذلك بأمور عجيبة، لا يخالطها شك ولا ريبة، ومن ذلك أن تحت المنارة كنوز ثمينة، مخفية عن السلطان وعن عموم الرعية، ليعلن السلطان موافقته الغبية، على هدم منارة الأمن والحمية، طمعًا في استخراج الكنوز الثمينة. بدأ العمل بكل همة، من الجميع دون روّية، ففر سلوم في ليلة خفية، ليلتحق بجيش الصليبية، ويقدم لهم التهنئة والهدية، المتمثلة في بدء العمل بهدم منارة الإسكندرية، فاحتفل عساكر ورجال الصليبية، بأكل سلطان المسلمين لطعم الأذية، وكرم سلوم البلية. في الجانب الآخر استمر جميع أهالي الإسكندرية، المشاركين في هدم الحارسة الأبية، الشامخة العلية، في عملهم المدمر، الذي حتما سيذيقهم المر، طوال بقية العمر. سقطت المنارة، وانتهت أعمال الحفر والقهر، ونزعت جميع الحصى والحجارة، ولم يعثروا على الكنوز الثمينة، فتبين لهم زيف وعود سلوم المزعومة، التي أطاحت بالمنارة، وكشفت فشل السلطان ورجال الإدارة، فشخصت الأبصار وحلت المصيبة، واتسعت الدائرة وكبرت القضية، فقد أصبحت المدينة مكشوفة، دون مراقبة ولا حراسة، فلا متاريس ولا منارة. سأل السلطان عموم القوم، هل رأى أحد منكم سلوم؟ فأجاب الناس بنفي العلوم، وهم يتجرعون مرارة القهر وعلقم الهموم، بعد أن بلغهم الخبر المعلوم، بكذب خسيس الفطرة سلوم، فانطلق الجميع للبحث عن المجذوم، الذي تقمص شخصية رجل الدنيا والدين، في كل زاوية وكل صومعة طين، فلم يجدوا له أثرا، ولم ينقل عنه خبر، وماهي إلا سويعات قليلة، حتى هاجمت سفن الصليب المدينة، فطفقت تقتل الشيوخ والصبية، والرجال دون روية، وأسرت سلطانها الداهية، الذي أطاع سلوم فأطاح بالمنارة ،فأرسل في الحال إلى بلاد الترك، ليتولى أمره قضاة الصلبية. سلمت المدينة سلاحها، ودفع سكانها ثمن حماقة سلطانها، بعد أن قتل معظم رجالها، وسبي جل أطفالها ونسائها، فتسنى لروم الصليبية بسط النفوذ، والتحكم في خيرات البلد المأخوذ، وتم في الحال إصدار مرسوم بتولية سلوم رئاسة المدينة، نظير ما قدمه من أعمال جليلة، يتقدمها المساهمة في الإطاحة بمنارة الإسكندرية، التي كانت الحصن الحصين، والحارس الأمين، التي منعت المدينة عقود وسنين، فصدت هجمات جيوش الروم الغاصبين، عند الاقتراب من ساحلها المتين. فنظم أحد شعراء ذلك الزمان قصيدة رائعة في ذلك المجذوم اللعين، الذي أسهم في سقوط الإسكندرية، وكيف استطاع استغفال السلطان وعموم أهالي المدينة ليسلموه الخيط والمخيط في إدارة البلاد، وتصريف شئون العباد، والتي قال في مطلعها:
صلى المصلي لأمر كان يطلبه
فلما انقضى الأمر لا صلى ولا صاما
سلوم ما زاد في الإسلام خردلة
ولا ترهبن في أمر ولا قاما
بالنظر إلى الأبيات السابقة التي قيلت في بطل قصة هذا المقطوعة الحاج اللعين سلوم، يمكن إسقاطها على وضع الكثير من الناس، في مختلف الأزمنة وعلى جميع الأصعدة، بما فيها زماننا هذا ومجتمعنا وغيره من المجتمعات الأخرى التي اتخذ ثلة من أبنائها العبادة، والتدين والالتزام، وأعمال البر والطاعة والتقوى سبيلا إلى كسب قلوب الناس، والفوز بثقتهم، ليتسنى لهم الوصول إلى مطامعهم، وتحقيق أهدافهم ، ، ومصالحهم الدنيوية الرخيصة، دون مراعاة لحرمة العقيدة والدين، أو وجود لنزعة الخوف والحياء من الله تعالى ، أو مراعاة لمشاعر عباده الذين يعيشون على أرضه، وتحت سمائه.
بقلم :
مرزوق بن علي الزهراني

تعليقات